من أعمال القلوب (2)
كتبه/ سعيد محمود
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
أخي.. لقد أمر الله عباده بالتوكل عليه، وحثَّ على ذلك في مواضع كثيرة، قال -تعالى-:
(فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ) (النمل:79).
وقال -تعالى-: (فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ) (هود:123).
وقال -تعالى-: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا) (الفرقان:58).
وقال -تعالى-: (فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (آل عمران:159).
وقال -تعالى-: (وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (آل عمران:122).
وقال -تعالى-: (وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) (المائدة:23).
وقال -صلى الله عليه وسلم-:
(لَوْ أَنَّكُمْ تَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ، لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ، تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا)
(رواه أحمد والترمذي وابن ماجه، وصححه الألباني).
تعريف التوكل: هو الاعتماد والتفويض، يُقال:
وكل فلان فلانًا، فيما عجز عنه هو ليقوم به.
قال ابن القيم -رحمه الله-:
"التوكل نصف الدين، والنصف الثاني: إنابة، فإن الدين استعانة وعبادة:
(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)؛ فالتوكل هو: الاستعانة، والإنابة هي: العبادة".
وقال: "ولو توكل العبد على الله حق توكله في إزالة جبل من مكانه وكان مأمورًا بإزالته لأزاله".
حقيقة التوكل: قال الزبيدي: "الثقة بما عند الله واليأس مما في أيدي الناس".
أخي -اعلم رحمني الله وإياك-:
أن تاريخ المتوكلين على الله -عز وجل-، مليء بالصور المشرقة، ومن ذلك:
- لما نزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع أصحابه في
واد أثناء السفر علق سيفه في شجرة ونام تحتها، وتفرق الناس في الوادي يستظلون في
الشجر، فلم يتنبهوا إلا والنبي -صلى الله عليه وسلم- يدعوهم، فأتوه،
فإذا بشخص وسيف ساقط. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-:
(إِنَّ رَجُلا أَتَانِي وَأَنَا نَائِمٌ فَأَخَذَ السَّيْفَ فَاسْتَيْقَظْتُ وَهُوَ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِي فَلَمْ أَشْعُرْ إِلا وَالسَّيْفُ صَلْتًا -
أي مسلولاً- فِي يَدِهِ فَقَالَ لِي: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ قَالَ: قُلْتُ: اللَّهُ. ثُمَّ قَالَ
فِي الثَّانِيَةِ: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ قَالَ: قُلْتُ: اللَّهُ. قَالَ:
فَشَامَ السَّيْفَ) (متفق عليه)، (صَلْتًا) -أي مسلولاً-، (فَشَامَ السَّيْفَ) أي: أغمده أو ألقاه. وفي رواية:
(فَسَقَطَ السَّيْفُ مِنْ يَدِهِ) (رواه أحمد وابن حبان، وصححه الألباني).
- ولما دخل النبي -صلى الله عليه وسلم- الغار في الهجرة، وخاف أبو بكر -رضي الله عنه- على النبي -صلى الله عليه وسلم- من جموع المشركين
الباحثة عنه، قال له سيد المتوكلين: (يَا أَبَا بَكْرٍ مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا) (متفق عليه)،
وقد سجل القرآن هذا المشهد العظيم في قوله -تعالى-: (إِلاَّ
تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ
لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ
تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (التوبة:40).
-
ولما ترك إبراهيم -عليه السلام- هاجر أم إسماعيل -عليهما السلام- عند البيت امتثالاً لأمر ربه،
قامت إليه تسأله، وهو موليًا عنها إلى أرض فلسطين:
(يَا إِبْرَاهِيمُ أَيْنَ تَذْهَبُ وَتَتْرُكُنَا بِهَذَا الْوَادِي الَّذِي لَيْسَ فِيهِ إِنْسٌ وَلا شَيْءٌ؟!
فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ مِرَارًا وَجَعَلَ لا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا فَقَالَتْ لَهُ: أَاللَّهُ الَّذِي أَمَرَكَ بِهَذَا؟
قَالَ: نَعَمْ. قَالَتْ: إِذَنْ لا يُضَيِّعُنَا) (رواه البخاري)!
وفي بعض الروايات، أن جبريل -عليه السلام- جاءها بعد انصراف إبراهيم -عليه السلام- فقال لها:
"لمن وكلكما؟ قالت: إلى الله. فقال: قد وكلك إلى كاف".
فالله الله في أحوال المتوكلين الذين تعلقت قلوبهم بمولاهم، فكفاهم أمر دنياهم
(وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) (الطلاق:3).
واعلم -رحمني الله وإياك- أن للمتوكلين مقامات:
أدناها: أن يكون كالطفل الصغير مع أمه، كلما أصابه مكروه صرخ "أماه"؛ لأنه لا يعرف غيرها.
وأعلاها: أن يكون بين يدي ربه مستسلمًا كما هو حال الميت مع مغسله
فاللهم ارزقنا حسن التوكل عليك.